20
شوال
1445 هـ
28
ابريل
2024 م

أبو بكر الصديق

line
تاريخ النشر: 2020-08-13 15:57:10
المشاهدات: 895

عناصر الخطبة

1/ رضا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأبي بكر خليفة له 2/ مناقب الصديق أبي بكر 3/ ملازمته وقربه من النبي -صلى الله عليه وسلم- 4/ شيء وقر في قلبه هو ما ميزه عن غيره 5/ تضحيته بجاهه ورئاسته من أجل الإسلام 6/ تصديقه للنبي -صلى الله عليه وسلم- 7/ جوانب القدوة في شخصيته 8/ حال أبي بكر والكثيرين من المسلمين والدعاة

اقتباس

وما نال أبو بكر كل هذا، وما سبق الأمة بما سبقها بكثير صيام ولا صلاة، وإنما بشيء وقر في قلبه، ولا يتوهم الجاهل من هذا أن ذلك الذي وقر في قلبه هو الهزال الذي يسمونه اليوم النية الطيبة ثم يمضون بعد ذلك في معاصي الله -عز وجل-، فهذا سباب لأبي بكر لا مدح، ولا يفرح المفرط في دين الله بذلك فيظن أنه يقتدي بأبي بكر، كما لا يظن أحد أن أبا بكر لم يكن له كثير صيام وصلاة .

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: حديثنا اليوم عن علم من أعلام المسلمين، أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقتدي به، ألا وهو خير هذه الأمة بعد نبيها، وأرحمها بها بعده -صلى الله عليه وسلم-، الخليفة الراشد الأول الصديق أبو بكر -رضي الله عنه-، فقد أمرنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن نستمسك بمنهجه -رضي الله عنه- ونقتدي بسيرته فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".

وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني لا أدري ما بقائي فيكم؟! فاقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر". وعن ابن مسعود قال: حُبُّ أبي بكر وعمر ومعرفتهما من السنة. [تاريخ الخلفاء ص53].

وقد رضيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته من بعده، وقدمه في مرضه ليصلي بالناس، وكره أن يصلي بالناس غيره، وأمر الأمة بالرجوع إليه بعد موته -صلى الله عليه وسلم-.

وعن جبير بن مطعم قال: أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة، فكلمته في شيء، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله: أرأيت إن جئت ولم أجدك -كأنها تريد الموت- قال: "فإن لم تجديني فأْتِي أبا بكر".

وروى مسلم عن عائشة قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: "ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا؛ فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا ولا -يعني لا يكون كذلك [المشكاة (3/1697)]- يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر".

ولذلك فحين نتحدث عن أبي بكر فإنما نتحدث عن أحب رجال هذه الأمة إلى نبيها -صلى الله عليه وسلم- وأفضلها بعده على الإطلاق؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر". يعني لا يبقى باب إلا سد إلا باب أبي بكر.

وعن عمرو بن العاص أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أحب إليك؟! قال: "عائشة"، قال عمرو: قلت: من الرجال؟! قال: "أبوها".

وقال عمر: أبو بكر سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وروى البخاري عن ابن عمر قال: كنا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نفاضل بينهم.

وقد كان أبو بكر هو الصاحب الملازم والقريب المقرب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كثيرًا ما كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، ودخلت وأبو بكر وعمر، وخرجت وأبو بكر وعمر".

وكان -رضي الله عنه- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار، ورفيقه في طريق الهجرة، ورفيقه في العريش يوم بدر. وبشره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجنة مراتٍ عديدة كثيرة، بل أخبره أنه يدعى من أبواب الجنة الثمانية.

وما نال أبو بكر كل هذا، وما سبق الأمة بما سبقها بكثير صيام ولا صلاة، وإنما بشيء وقر في قلبه، ولا يتوهم الجاهل من هذا أن ذلك الذي وقر في قلبه هو الهزال الذي يسمونه اليوم النية الطيبة ثم يمضون بعد ذلك في معاصي الله -عز وجل-، فهذا سباب لأبي بكر لا مدح، ولا يفرح المفرط في دين الله بذلك فيظن أنه يقتدي بأبي بكر، كما لا يظن أحد أن أبا بكر لم يكن له كثير صيام وصلاة، بل كان أتقى الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم-، وأكثرها عملاً للطاعات وأفعال البر، كما سنرى بعد قليل إن شاء الله.

وإنما المراد أن أعمال البر والطاعات وحدها ما كانت لترفعه إلى تلك الدرجات العالية، لولا ما صاحبها من شيء عظيم قام في قلبه من إخلاص وصدق ويقين يزن الجبال، وإيمان يرجح بإيمان الأمة، كما قال عمر -رضي الله عنه-. لقد كان أبو بكر مثال المؤمن الصادق مع نفسه، الصادق في إيمانه،. الخائف من ربه، المخلص في إرادة الله ورسوله والدار الآخرة، كان مثال الرجل الورع الشجاع الذي باع نفسه لله، وضحى بمكانه وجاهه في قومه في سبيل الله، ووهب حياته وماله لدعوة الله، مثال المؤمن الصادق في حبه للرسول -صلى الله عليه وسلم-، حبًّا له جذوره في القلب، ومظهره وثماره في القول والعمل.

وكان من شدة حبه للرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدقه في هجرته إليه يفطن لأمور لا يفطن لها غيره من الصحابة؛ فحين خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين في مرضه الذي مات فيه، جلس -عليه الصلاة والسلام- على المنبر، وقال: "إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده". قال أبو سعيد الخدري: فلم يفطن لها أحد غير أبي بكر، فذرفت عيناه فبكى، ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا يا رسول الله. قال أبو سعيد: فعجبنا له. فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.

يقول أبو سعيد: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، وفي رواية أنه -صلى الله عليه وسلم- بعد أن هبط من المنبر لم يقم عليه بعد ذلك حتى مات، وكان أبو بكر من حبه للرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا عزى رجلاً يقول له فيما يقول: اذكروا فَقْدَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصغر مصيبتكم.

وفي مكة لما اجتمع المشركون حوله -صلى الله عليه وسلم-، وأخذ أحدهم بمجمع ردائه، بذل أبو بكر ما يستطيع من نفسه حتى خلص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أيديهم وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! ولما أُخذ أبو بكر فضُرب حتى لا يستطيع أن يقوم، فأُخذ إلى بيته، كان أول ما تكلم أن قال: ماذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!.

وفي الغار في طريق الهجرة كان تخوفه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت شفقته عليه لا على نفسه. وكان يحميه بما يستطيع من الوسائل، وكان يمشي في الطريق مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، يحذر أن يصل إليه أحد من المشركين بشيء يكرهه.

ولنا قدوة كذلك في أبي بكر في قصة إسلامه، ففيها أمر لا يفطن إليه الكثيرون؛ إذ المشهور أن الذين اتبعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بداية الدعوة كانوا من المستضعفين، وهذا صحيح على وجه العموم، ولكن أبا بكر -رضي الله عنه- كان شريفًا من أشراف قريش، وغنيًّا من أغنيائهم.

قال النووي: كان من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشاورتهم، ومحببًا فيهم، وأعلمهم لمعالمهم، فلما جاء الإسلام آثره على ما سواه، ودخل فيه أكمل دخول. [تاريخ الخلفاء ص31].

وإذن فأبو بكر آثر الإسلام على المكانة والجاه والرئاسة، وضحى بذلك في سبيل متابعة محمد -صلى الله عليه وسلم- على دين الإسلام، وهذا أصدق ما يكونه الرجال، أن يضحي بجاهٍ ومكانةٍ وسيادةٍ ليتبع مطاردًا أو مستضعفًا تصب معه عليه الفتن، فإن المرء لا يفعل ذلك إلا في أقصى درجات الاقتناع والتصديق، فعلى الذين يشفقون على مراكزهم وأنفسهم وأموالهم أن يراجعوا أنفسهم ويراجعوا إيمانهم، فإن الصدق في الإيمان وإيثاره على الدنيا هو ذلك الشيء الذي وقر في قلب أبي بكر، الذي تحسبونه هينًا وتظنونه مجرد نية صالحة، وتعدون أنفسكم حينئذ مثل أبي بكر.

والواقع أن أكثر المسلمين اليوم لا يزالون يقيمون لأشخاصهم في المجتمع الشارد المهلهل وزنًا وأهمية، ويترددون في الالتزام الكامل بالإسلام بسبب ذلك.

كان أبو بكر -رضي الله عنه- أكثر الأمة تصديقًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما من أحد دعاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- للإسلام إلا فكر أو تردد، إلا أبا بكر؛ كان أسرع الأمة استجابة، وأولها تحركًا بهذا الدين، وأقواها دعوة إليه، حتى أسلم بدعائه وحده خمسة من أول ثمانية سبقوا إلى الإسلام، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص. ولذلك قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟!" مرتين. ولما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذهب الناس إلى أبي بكر وقالوا له: هل لك في صاحبك؟! يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. فقال لهم: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.

وكان الرسول يعلم منه تصديقه القوي، وكان يقول له: "الصديق". وحدث أصحابه أكثر من مرة بحديث تعجبوا منه، فيقول لهم: "فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر". وما هما حاضريْن، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- قد تيقن من أنهما لا يترددان في التصديق العميق بلا تساؤل بكل خبر يصدر منه -صلى الله عليه وسلم-.

رزقنا الله الصدق والإخلاص، والتمسك بسنته -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:فنمضي مع الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- نطرق أبواب القدوة فيه -وكل سيرته مجال للاقتداء والاعتبار- وسبقه إلى الخير معروف قبل توليه الخلافة وبعدها.

عن عمر -رضي الله عنه- قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق، ووافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا -يعني ما سبقته يومًا- قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟!"، فقلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكر: ما أبقيت لأهلك؟!"، فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسبقه إلى شيء أبدًا. [رواه أبو داود والترمذي وقال الألباني: وسنده حسن].

فأين إيمان كثير من المسلمين عامة والدعاة خاصة من إيمان أبي بكر؟! إننا اليوم لنعجب بالرجل صاحب المال الكثير إذا تصدق في سبيل الله بما لا يساوي واحدًا بالمائة أو بالألف من أمواله، ونعد ذلك عملاً عظيمًا لا مثيل له، ولكن أبا بكر أتعب كل من يأتي بعده بما وقر في قلبه من إيثار الدار الآخرة وتعلقه بها، حتى ليأتي بماله كله ليجعله في سبيل الله، فذلك الذي وقر في قلب أبي بكر أيها المسلمون.

وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟!"، قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن تبع منكم جنازة؟!"، قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟!"، قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن عاد اليوم مريضًا؟!"، قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة".

وفي حديث البزار عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه فقال: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟!"، فقال عمر: يا رسول الله: لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطرًا، فقال أبو بكر: ولكني حدثت نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت صائمًا. فقال: "هل أحد منكم اليوم عاد مريضًا؟!"، فقال عمر: يا رسول الله: لم نبرح، فكيف نعود المريض؟! فقال أبو بكر: بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاك، فجعلت طريقي عليه لأنظر كيف أصبح. فقال: "هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينًا؟!"، فقال عمر: صلينا -يا رسول الله- ثم لم نبرح. فقال أبو بكر: "دخلت المسجد، فإذا بسائل، فوجدت كرة من خبز الشعير في يد عبد الرحمن، فأخذتها ودفعتها إليه". فقال: "أنت فأبشر بالجنة". ثم قال كلمة أرضى بها عمر.

وعن علي قال: والذي نفسي بيده، ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر.

أما بعد أن تولى الخلافة فقد حاول عمر أن يسبقه إلى بعض الخير وأبو بكر مشغول بالخلافة، فأراد أن يتعهد امرأة عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة، فكان يخرج إليها من الليل ليسقي لها ويقوم بأمرها، فإذا به يجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يُسبَق إليها، وليرصد من الذي يسبقه في كل مرة، فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة.

هكذا كان الخلفاء الراشدون المهديون يعملون في الليل ولا يتكلمون، لم يكونوا أصحاب كلام وشعارات، وأهل مظاهر وكبرياء، وهكذا كان الخلفاء الراشدون المهديون، يقضون ليلهم في التقرب إلى الله تعالى حيث لا يطلع عليهم إلا الله، يحركهم الإخلاص ويزينهم التواضع.

تتحدث امرأة من السلف عن أبي بكر، فتذكر أنه كان يحلب الغنم قبل أن يُستخلف، فلما استُخلف لم يمتنع عن ذلك، وظل سنة كاملة يأتيه جواري الحي بغنمهن فيحلبه لهن، وربما أتى لصاحبة الشاة ليحلبها لها فتقول لها ابنتها الصغيرة: يا أماه جاء حالب الشاة. تعني بذلك الخليفة أبا بكر -رضي الله عنه-.

كان -رضي الله عنه- كما قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر". ولكن هذا اللين وتلك الرحمة لم يمنعاه أن يكون أشد الأمة في دين الله حين يستدعي الأمر؛ فإنه في بداية استخلافه لما ارتدت العرب أصر على إنفاذ جيش أسامة الذي عقد لواءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بإنفاذه قبل موته، فما برح أن مات -صلى الله عليه وسلم- وخاف الناس إن خرج جيش أسامة وفيه خيرة الصحابة أن يهلكوا وقد ارتدت العرب، والحاجة تدعو لإبقاء جيش أسامة في مواجهة هؤلاء المرتدين لو أرادوا بالمدينة سوءًا، وقال الصحابة لأبي بكر: رد هؤلاء، تُوَجِّهُ هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟! فقال: والذي لا إله إلا هو، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رددت جيشًا وجهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا حللت لواء عقده. فسار أسامة، فجعل لا يمر بقوم يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم. فلقوهم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام.

وفي رواية أن أبا بكر قال: والله لأن تخطفني الطير أحب إليّ من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلم يأخذ بمشورتهم وبعث جيش أسامة.

ويعجب المرء لذلك الحوار بين أبي بكر وعمر لما ارتدت العرب وقالوا: لا نؤدي الزكاة، فقال أبو بكر: لو منعوني عقالاً -يعني الحبل الصغير- لجاهدتهم عليه. وعمر يقول له: يا خليفة رسول الله: تألف الناس وارفق بهم. فيقول له أبو بكر: أجبار في الجاهلية خوَّار في الإسلام، إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟!

وفي رواية الشيخين: أن عمر قال له: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فمن قالها عصم ماله ودمه إلا بحقها"؟! فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: "إلا بحقها". قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق.

ومن يقارن شدة أبي بكر على الكافرين ومانعي الزكاة، وشجاعته في محاربة الروم، مع ذلته وتواضعه للمؤمنين، وموقفه في خدمة العجوز، وحلب الغنم للمسلمين وهو خليفة، ليعلم على الفور أنه كان مثال المؤمن الصادق، فالحاكم المؤمن هو الشديد على الكافرين المتواضع للمؤمنين، وليس هرًّا جبانًا مع الكافرين، أسدًا جسورًا على المؤمنين، لقد كان أبو بكر خير من تمثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة: 54]. فكل ذلك استُبْدِل اليوم بعكسه؛ فأصبحت الحرب توجه لمن يثبت على دينه لا لمن ارتد، وأصبحت العزة على المسلمين والذلة على الكافرين.

ثم كان أبو بكر بعد هذا قدوة في النظر في مصالح المسلمين بفقه دقيق وفراسة صادقة ومراعاة للواقع، فمن ذلك جمعه للقرآن، واستخلافه لعمر من بعده، وكان في ذلك أشد الأمة فراسة كما ذكر أصحابه، وكان عاملاً بذلك على حفظ الدين ووحدة الأمة.

وختامًا، فلنا قدوة في أبي بكر في ورعه الشديد وخوفه من ربه؛ سئل يومًا عن آية فقال: أي أرض تسعني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب الله ما لم يرد الله.

وجاء غلام له يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: تدري ما هذا؟! قال أبو بكر: ما هو؟! قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني هذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه. وقال ابن سيرين: لم أعلم أحدًا استقاء من طعام أكله غير أبي بكر.

ومع أعماله العظيمة وزهده وورعه وانشغاله بالخير، كان شديد الخوف من الله، محتقرًا لنفسه، وذلك هو الشيء الذي وقر في قلبه -أيها المسلمون- فقد روى النسائي أن عمر اطلع عليه وهو آخذ بلسانه فقال: هذا الذي أوردني الموارد. ودخل يومًا بستانًا، فإذا طائر في الشجر، فقال أبو بكر: طوبى لك يا طير! تأكل من الشجر وتستظل بالشجر، وتصير غدًا إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك. وكان يقول: والله لوددت أني خضرة تأكلني الدواب. وقال: لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن. وكان إذا مُدِح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.

ولما حضره الموت مدحته ابنته عائشة -رضي الله عنها- ببيت من الشعر يقول:

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتـامى عصمة للأرامل

فقال لها: ذاك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فكان حريصًا على من حوله وهو في آخر لحظاته، موجهًا لهم لما هو أقوم وأصوب.

وتمثلت عائشة -رضي الله عنها- ببعض الأشعار، فقال لها: ليس كذلك، ولكن قولي: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19]، ثم قال: (انظروا ثوبيَّ هذين فاغسلوهما وكفنوني فيهما؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت. وأوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس ويعينها ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر.

وصلى عليه عمر بين المنبر والمكان الذي دفن فيه، ونزل في حفرته لدفنه عمرُ وطلحةُ وعثمانُ وابنُه عبدُ الرحمن، رضي الله عنهم أجمعين. وقد كان مولده -رضي الله عنه- بعد مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وبضعة أشهر، وكانت خلافته سنتين وبضعة أشهر، فكان عمره كعمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحوًا من ثلاثة وستين عامًا.

وارتجت مكة لموته؛ فقال أبوه أبو قحافة -وكان بمكة-: ما هذا؟! قالوا: مات ابنك. قال: من قام بالأمر من بعده؟! قالوا: عمر. قال: صاحبه. أي هو مثله.

اللهم اغفر لأبي بكر وعمر والصحابة الكرام، ولا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، وألحقنا بهم في دار السلام، في صحبة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأوردنا حوضه، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم توفنا على ما كان عليه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، متبعين غير مبتدعين ولا مبدلين أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.